top of page

فيلم حمى البحر المتوسط

تاريخ التحديث: قبل ٤ أيام

يستطيع فيلم حمى البحر المتوسط  الحائز على جائزة أفضل سيناريو في "نظرة ما" لعام  2022 أن يأخذنا إلى مدينة حيفا بما تحمل من سحر وجمال، اذ يتخلله مشاهد وديعة للبحر والأضواء والميناء، ويخلق مُقاربة لهذا الجمال عند رؤيته من الداخل من خلال التعرف على شخصيات تُصادق الألم والملل والاغتراب، ليقول لنا بطريقةٍ ذكية أن الأشياء ليست كما تبدو، وأن المُدُن المُركبة سياسيًا واجتماعيًا من شأنها أن تَخلق شخصيات مُركبة على المستوى الوجداني. وهُنا تتشابه الشخصيات والمُدُن في القُدرة على الاختباء خلف أقنعة، ليست هذه مقولة الفيلم الأساسية وربما من الصعب على المشاهدين ان يقبضوا على مقولته الأساسية، مما يجعله غير متوقع، ويحمل بذور الانفتاح على المُمكن بكُل ما يحمل من سرديات واحتمالات، فهو يناقش مصفوفة معقدة من القضايا دون أن يُشير اليها بشكل مُباشر ويترك مساحة للمُشاهد بأن يلتقط الإشارات ويصطاد المعاني.


الاكتئاب كموقف من الحياة

نبدأ بالتَعرُف أولًا على شخصيةِ وليد، رجل تظهر على وجهه تعابير غامضة، توحي بالملل أحيانًا وأحيانًا أخرى بالألم، وسُرعان ما يذوب هذا الغموض عندما يَدخُل وليد إلى غرفة المُعالجة النفسية لنكتشف انه مُشخص منذ سنتين بمرض الاكتئاب، يكون هذا مَدخلًا لنقد موضعة العلاج النفسي بصبغته الأوروبية في سياقنا الفلسطيني، اذ تتحدث المُعالجة عن الجلسة العلاجية كأحد الوسائل الاستهلاكية التي من شأنها ان تحسن من حالة وليد النفسية والمزاجية، مُشبهة إياها بالالتحاق بنادي رياضة وحصص اليوغا، وكأن هذه الجلسات هي مساحة مُنفصلة عن العالم اليومي السياسي للإنسان، ومُستقطعة زمانيًا ومَكانيًا، وبينما يتحدث وليد عن عدم استفادته من العلاج، تقول له المُعالجة النفسية أن سنتين لسن كافيات ليحرزن تحسن في حالته النفسية، وتتبع هذه الجُملة قائلة ان وقت الجلسة قد أنتهى، رغم انه لم يكن سير الحديث مناسبًا لقطع الجلسة ولكن هذه إشارة لرؤية ملامح العلاج النفسي الغربي  يما يتسم من جُمُود ونزعة استهلاكية. الأمر الذي يجعل وليد غير قادر على الاستفادة من الجلسات العلاجية، بل على العكس، اذ يطرح بأسلوبٍ ساخرٍ انها تُفاقم الاكتئاب والأعباء النفسية، يُشبه الأمر عندما قام فرانز فانون بتطبيق أحد أشكال العلاج النفسي على مجموعتين ممن يعانون من اشكالات نفسية، مجموعة من الرجال الجزائريين، ومجموعة أخرى من النساء الأوربيات، وقد نجح هذا العلاج مع مجموعة النساء الأوروبيات، وبدأت علامات التشافي بالظهور عليهن، والخروج تباعا من المشفى، في حين فشل مع الرجال الجزائريين، ظن فانون بالبداية بأن ذلك نتيجة لكون الأطباء النفسيين لا يستطيعون التحدث باللغة العربية، ولكنه ومع تكرار العلاج مرة تلو الأخرى، وتكرار فشله، توصل فانون إلى نتيجة مفادها: الرجال الجزائريين يقاومون العلاج النفسي الغربي، الذي يفترض بأن الجزائر فرنسية، ولا يأخذ بعين الاعتبار مهمة فهم السياق الجزائري ثقافيا وتاريخيا، وكل ذلك يضع على الجزائري عبء تحمل النظرة الغربية له، والتوافق معها، الأمر الذي قاد فانون إلى الانشغال في التواضع أمام الثقافة المحلية الجزائرية؛ لكي يتجاوز الغرور الأوروبي الذي يطغى على كل خطاب الطب النفسي(Bulhan,1985) نلاحظ هنا كيف تمثلت معاناة/ألم الجزائري كشكل من أشكال رفض الخطاب الاستعماري المتغلغل في الطب النفسي، فكان الألم على سوئه، فعل يستمر بالوجود، ولا يسعى الجزائري لتجاوزه بالخيارات المتاحة أمامه، تمامًا كوليد. 


عامر حليحل


وهُنا تَخلق المُخرجة مُحاججة حول مفهوم الاكتئاب في سياقنا الفلسطيني، يُشير غرينبيرغ في كتابه "Manufacturing Depression" إلى أن المُعالجين النفسيين الذين يحثون على التخلص من الاكتئاب، يحثون أيضا على التكيف مع عالم غير عادل، وذلك لأن العلاج النفسي بصبغته النيوليبرالية يختزل رد فعل الشخص اتجاه مجموعة معقدة من الظروف السلبية إلى مجرد تشخيص طبي يُدعى " الاكتئاب"  مُتجاهلا ضرورة إصلاح البيئة التي هي في الأساس المسبب الرئيسي للاكتئاب بوسائل ذات طابع اجتماعي، وسياسي، واقتصادي، وبهذا يتم تحوير الطب النفسي في الولايات المتحدة وبلدان أخرى من العالم إلى مهنة يتم فيها فرض مفاهيم طبية ضيقة في تشخيص وعلاج الاكتئاب، اذ يتم فيها سلب الألم من أي معنى له والسعي نحو القضاء عليه تمامًا (Greenberg,2010) وهذا تسطيح للمشهد في النفس البشرية، اذ انه يلغي الفوارق الاجتماعية والحضارية والثقافية للمجتمعات، الأمر الذي يفضح عنصرية الطب النفسي النيوليبرالي وما يحمله من استعمار جديد، ويشير إلى ان هذا التصدير للمفاهيم والممارسات الأوروبية إلى باقي بلدان العالم بهدف توحيد معنى الاضطراب العقلي ما هو إلا حيلة لخدمة الشركات التجارية الكُبرى وتبرئة العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي هي في حقيقة الأمر تؤدي إلى ظهور الاضطرابات النفسية والعقلية، اذ يبدأ الأشخاص الذي تم تصنيفهم كمرضى عقليين في التخلي عن الوسائل الاجتماعية المجربة، يتم اختزال معاني الألم، الأمر الذي نُلاحظه عند تتابع أحداث الفيلم، اذ نبدأ بإدراك أن الاكتئاب الذي ألَمَ بوليد إنما هو محض تجلي لحالة سياسية واجتماعية يعايشها الكثير من الفلسطينيين في أراضي ال48، فبينما يعرض الفيلم حياة وليد اليومية داخل بيته، نرى في خلفية هذه المشاهد الأخبار الفلسطينية التي تُعرض على التلفاز والتي لا يتوقف وليد عن مُتابعتها، تكون هذه إشارة لمعرفة احدى مصادر اكتئابه، وبعد التقاط باقي الاشارات في الفيلم يصبح هذا جليًا، لنكتشف أن وليد يبحث عن هوية مفقودة وضائعة، ويحمل فوق كاهله تعب البلاد وهمومها. يُشبه وليد شخصية أحمد العربي في قصيدة درويش،" نازِلًا من نحلة الجُرُحِ القديمِ إلى تفاصيل البلاد" ، وهو أيضا كأحمد العربي " يُريدُ هوُية فيصابُ بالبُركَان ".


عامر حليحل

الصحة النفسية بوصفها تكيف مع عالم غير عادل

لم يشكل الفيلم بشكل مباشر، فهم الأيديولوجيا والرؤية التي يرى بها وليد العالم، ولكنه أوحاها للمشاهد من خلال الصور والملصقات التي يعلقها على حائط مكتبه الذي يُحاول أن يكتُب فيه أول روايةٍ له، بعد ما تَرَك وَظيفته في احدى البنوك، القرار الذي لا يُعجِب أهل وليد ولا يُعجب أحدًا ممن حوله، اذ ان الكتابة لا تُعتبر عَمَل حقيقي ولا تَعود عليه بالربح المادي، وهُنا أيضا نبدأ بإدراك طبقات الاغتراب التي يُعاني منها وليد، فاغترابه لا يقتصر على وجوده  في سياق استعماري فقط، بل أيضا داخل منظومة رأسمالية، في كتابهما " الشيزوفرينيا والرأسمالية"  يُشير جيل دولوز وغاتاري، إلى ان النظام الرأسمالي يحركه منطق الربح والإنتاجية والمردودية ويُهمش كُل ما من شأنه أن يعيق أو يهدد هذا المنطق، اذ يُقصي كل من مفاهيم الرغبة والحُب والفن بعيدًا عن الحيز العام لأنه مجال للإنتاج والعمل لا للرغبة والابداع. اذ أن ما يهم الرأسمالي هو "آلة الاستغلال"، أي يَدَاكَ إذا كنت عامل، وقدرتك على الإقناع إذا كنت مُحاميًا، وقدراتك الحسابية إذا كنت مُحاسبًا أما ما بقي منك، فإنه لا يهم النظام الرأسمالي ولا يريد أن يسمع به (1977,Deleuze & Guattari). وهُنا يُمكن أن نرى اكتئاب وليد، كعَدَم تكَيُف ورفض لكل أوجه النظام والهيمنة، وليس محض تشخيص طبي يُعالج بالجلسات والأدوية، انه توق الى اكتساب وعي اجتماعي-سياسي بضرورة التغيير الجذري للمجتمع، وتغيير الواقع الراهن الذي لا ينفك عن تحويل الأفراد الى ما يشبه الروبوتات المغتربة، ويتوافق هذا مع إطار متجذر في الماركسية التي تجادل بأن سعادة الإنسان ورفاهه والأهم من ذلك الفردية لا يمكن أن تتحقق بالكامل إلا في مجتمع خالٍ من الاستغلال والقمع، وما عدا ذلك تُصبح الصحة النفسية هي بمثابة التَكَيُف مع شروط غير عادلة. يبقى السؤال ما أشكال وتجليات ذلك التَكَيُف؟ 


التقاء الأضداد


" في كُل شيء كان أحمد يلتقي بنقيضه 
عشرين عامًا كان يسأل 
عشرين عامًا كان يرحل"  

كما يلتقي أحمد العربي بنقيضه في مقطع السؤال عن الحقيقة " كان أحمد يلتقي بنقيضه، عشرون عامًا، كان يسأل، عشرون عاما كان يرحل" يلتقي ايضا وليد بنقيضه، اذ تظهر لنا شخصية جلال الذي انتقل مؤخرًا إلى العمارة التي يسكن فيها وليد، فتتشكل علاقة مركبة وعميقة بينهما رغم اختلافهما، جلال الرجل " الأزعر" الذي لا يهتم بالسياسة والأيديولوجيا والوطن، بل يعتبر ان هذه المفاهيم هي شكل من أشكال مضيغة الوقت، فهو يعيش كل يوم بيومه، يسمع الموسيقا بصوت مرتفع ويشرب الكحول، وسرعان ما نكتشف ان  التقاء وليد وجلال، هو بمثابة التقاء النقيضين على الطريقة الهيجلية التي تؤمن ان المتناقضات تُعرف ببعضها وببعضها تتمايز، أي أننا لا ندرك الشيء إلا إذا أدركنا نقيضه، فالضدان هما الشرط لمعرفة كُل منهما ولوجود كُل منهما، وقد جعلتنا المُخرجة نتعرف على مكنونات وليد وجلال من خلال العلاقة الجدلية بينهما، اذ ان معرفة المتناقضات أو التمييز بينها، يعني إدراك هذه العلاقات التي تجمع بينها، فالعلاقة التي تجمع بين الأشياء تولد خصائصها، ومعنى هذا ان لا معنى لها خارج الوحدة التي تجمع بين المُتناقضين، وبهذا يصبح الجوهري هو العلاقة، وخارج هذه العلاقة يُصبح النقيضين محض عدم أو تجريد، وهكذا تشَكَلَت علاقة وليد وجلال، في منتصف الفيلم، عندما اختفى جلال، تهيأ لي بأنه محض خيال في ذهن وليد، هو شخصية تعيش داخل رأس وليد وليس لها وجود مادي ملموس، الأمر الذي يَتَعمق في نهاية الفيلم.


فيلم حمى البحر المتوسط


نكتشف حقيقة جلال رغم ما يبدو عليه من تَكَيُف، جلال الذي اثار اعجاب زوجة وليد، كونه رجل يحمل ملامح الذكورية في مجتمعنا، يستطع تصليح المغسلة، ويتنازل عن صفة سيارته لجارته، ويستطيع ان يُقيم حديثًا مع أهل وليد، هو الشخص " الفهلوي" والذي يعمل في الجريمة شبه المُنظمة. تُعيدني شخصية جلال عندما يَسقُطُ القناعَ عنها، إلى كتاب سيكولوجية الإنسان المقهور لمصطفى حجازي، والذي يتحدث عن العُنف والفهلوية كحيل دفاعية يُمارسها الإنسان المقهور ليَضمن وجوده، ويعتبرها موقف من العالم المادي وظواهره ومؤثراته، وموقف من البنى الاجتماعية وأنماط العلاقات السائدة فيها، على المستوى الذاتي الحميم ، كما على المستوى الذهني. الأمر الذي يجعلنا نرى جلال على أنه الإنسان الذي فقدت إنسانيته قيمتها ، قدسيتها ، والاحترام الجديرة به،  لأن الواقع القهري هو عالم فقدان الكرامة الإنسانية بمختلف صورها، وهو الذي يتحول فيه الإنسان إلى شيء، إلى أداة أو وسيلة، إلى قيمة مبخسة. لنجد أنفسنا في مواجهة حقيقة صعبة مفادها أنه في خضم كل هذه المفارقات الي يعيشها فلسطينيو أراضي ال48 والبقاع المقهورة في العالم، يُمكن أن يتشابه العنيف والمكتئب، الأزعر والمُثَقَف، المُتَكيِف واللا مُتَكيف، من  حيث الغضب والقهر. والأهم من حيث الاغتراب.

عامر وجلال في فيلم حمى البحر المتوسط


أحدث منشورات

عرض الكل

Comments


bottom of page