top of page

سين على حاجز قلنديا: أمراض نفسية أم جنون سياسي؟

في احدى الصباحات الباكرة، تقف سين في طابور طويل على حاجز قلنديا المخصص للمشاة وهي في طريقها الى القدس، تتأمل الوجوه وتُحدثنا عن ما تراه:

كانت تَقِف في طابورٍ طويل غير مُنتَظَم، تُمسك قلم أحمر شفاه تُلون فيه شفتيها دون دِقة، كطِفلة تَدخُل غرفة والدتها وتبدأ بالعبث بأحمر شفاه أمها، ولكن أي عبثٍ هذا الذي تُمارسهُ امرأة في عُمرها أثناء انتظارها في حاجِز قلنديا؟ فبينما يبدو على الاَخرين تعب الانتظار وملامح الذُل، تبدو هي غير مُكترثة بما يَحدُث، وكأنها تعيش في عالمٍ مُوازٍ.  بدأت مُراقبتها لعل الوقت يمضي سريعًا، فليس ثَمة وقت أثقل من ذلك الوقت الذي أقضيه مُنتظرة رَحمة جُندي إسرائيلي، رأيتها  تخرج عن حدود شفتيها كما تخرج عن حدود المعقول في هذا الحيز المكاني الذي  يُسميه البعض مُغالطةً "معبر".أنظر اليها واتساءل عن ماهية الاختلال الذي يجعلها تُمارس سلوك كهذا، أحاول أن أصنفها تبعًا للدليل التشخيصي للاضطرابات النفسية والعقلية، أعتقد انها تُعاني من نوبات هوس أو انها شخصية هستيرية بامتياز، وبينما أغرق في أفكاري البائسة هذه، أجدها تصرخ فجأة في وجه الجندي قائلة " يلا مرقوني صرلنا ساعتين منستنى، بدي ألحق الصلاة بالأقصى " يغضب الجندي ويغلق شُباك الانتظار خاصته كشكل من أشكال العقاب الجماعي. يبدأ الناس الذين يقفون في الطابور بالصراخ على هذه المرأة غريبة الأطوار مُتهمينها بأنها " مشكلجية" وأنها تسببت بتأخيرهم، وأنه كان من الأجدر بها أن تصمت وأن لا تُجادل الجُندي خصوصًا في ظل هذه الظُروف العصيبة، تبدأ بالدفاع عن نفسها بطريقة تُشبهها أو تعبر عن حالة الهوس التي تتملكها، ولكنها في هذه الأثناء تقول جملة لا تشبه شيء سوى الحقيقة : " مش أنا اللي أخرتكم، الحاجز هو اللي أصلا مأخركم". أشعر بالذهول أمام جُملتها، وأبدأ بالتفكير في الغضب والعنف الذي نُوجهه لبعضنا البعض لأننا مقهورين وعاجزين، أتذكر  مصطفى حجازي في كتابه "التخلف الاجتماعي" وفرانز فانون في مُعذبي الأرض وكُل هؤلاء المُفكرين الذين كتبوا كُتبًا وصاغوا نظريات حول  الإنسان الذي يعيش في سياق استعماري، وكيف يُسلَب منه الوعي في مُسببات قهره ولا يَعُود قادرًا على قراءة واقعه، ألاحظ ان هذه المرأة نقلتني من التفكير في وجود خلل بشخصيتها إلى التفكير في حاجز قلنديا وكم يُراكم من قهر لا معقول في نفوسنا، اتساءل عن الحدود الفاصلة بين السواء وعدمه في سياق وظروف غير سوية، عن الطبيعي في سياقٍ غير طبيعي، وعن معنى الهستيريا التي تتجلى بقلم أحمر شفاه لا يعرف حدوده في ظل حدود يرسمها لنا الاستعمار. 


فيلم أمريكي طويل

 نتساءل عن ماهية الجُنون وامكانية النظر اليه كرد فعل طبيعي على الحالة السياسية غير الطبيعية.

تذكرني هذه المرأة  في شخصيات  مسرحية فيلم أمريكي طويل لزياد الرحباني الذي  يُصور فيه زياد تسعة "مجانين" في مصحة للأمراض العقلية والنفسية في الضاحية الجنوبية قرب مطار بيروت، حيث حملت كل شخصية فيهم أمراض مجتمعنا، غير أن جنون كل منهم عكس جزء كبير من الواقع، والمفارقة هي أن الجُنون كان واقعيًا ومنطقيًا، كقلق نزار من المصادفات القاتلة "إذا إجا حدا لهون ورشّنا"... "إذا أنا ماشي حد زلمة وقوّصه حدا ما بيعرف يصيب"... وافتراضات كثيرة على هذا المنوال، ورشيد الذي ضرب رجُلًا يمشي في الشارع لمجرّد أنه يتمسكن، فطلب منه الطبيب أن يهدأ ويطوّل باله، ليجيبّ بشراسة "ما بقا تقول طوّل بالك. ما بقا يطْوَل أكتر من هيك، في حين أن الطاقم الطبي الذي من المفترض انه يعالج هؤلاء " المجانين"، لإعادته إلى حالة "طبيعية" كان غير مَنطقي بل انه الجُنون المحض. وهنا يجعلنا زياد الرحباني نتساءل عن ماهية الجُنون والنظر اليه كرد فعل طبيعي على الحالة السياسية غير الطبيعية.

فيلم أمريكي طويل


زياد الرحباني

كتاب عصفورية


في كتابها " عصفورية " تعتقد الكاتبة جويل أبي راشد أن حدود العصفورية قد تلاشت في فترة الحرب الأهلية في لبنان، وقد تحولت البلاد كلها إلى عصفورية مترامية الأطراف، وتُشير هنا إلى العلاقة الوثيقة بين الأمراض النفسية والحالة السياسية السائدة مُعتقدة انه بإمكاننا كتابة التاريخ بالرجوع إلى أنواع الاضطرابات العقلية التي تسود في مجتمع ما، ذلك أن تاريخ الجنون في بلادنا متصلٌ اتصالاً وثيقاً بتاريخ التقلّبات الاقتصادية والاجتماعية، وما ينجرّ عنها من حرب وعنف وصدمات نفسيّة ونفي وهجرة.

كتاب عصفورية

الفُصام بوصفه محاولة تحرر


تتوافق هذه الرؤية مع النظرية التي  طوّرها الطبيب النفسي الاسكتلندي رونالد ديفيد لينغ، والتي أثارت الكثير من الجدل آنذاك. حيث افترضت النظرية أنّ الفصام ليس إلّا آلية تسمح للأفراد بتحرير أنفسهم من ظروف حياتية لا تُطاق، والجنون ليس إلّا ردّ فعلٍ على جنون بيئة الفرد الخارجية التي تحكمها السياسة والمجتمع. فقد آمن لينغ بأنّ الكثير من سلوكيات الأفراد الذين يوصمون بكونهم مصابين بالفصام أو الجنون، هي تعبيرٌ منطقيّ عن انزعاجٍ داخليّ ما. وأنّ النوبات الذهانية والهلوسات والأوهام التي ترافقهم، هي محاولات لإظهار بعثرة في النفس أو للإشارة إلى فوضى داخلية فيها. دفع لينغ في اتجاه النظر إلى هذه السلوكيات على أنّها تجارب مطهّرة تحرّر الفرد من مشاكل وجودية كثيرة، ورفض على إثر هذا إخضاع الفصام للأساس الفيزيولوجي فحسب، فمن خلال التتبع التاريخي للمرض النفسي، يتبين لنا أن الأخير بناء اجتماعي يتشكل، ويتغير تبعًا للسياق والثقافة السائدة فيه. 


وفي هذا الصدد يُروى بأن  صباح الشحرورة قد سُئلتْ مرّة، لماذا لم تقدّم أغاني سياسية؟ أجابتْ: “امبلى غنيت ع العصفورية، لَيْشْ هيدي شو؟”..


٥٦ مشاهدة٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل

コメント


bottom of page